نظم المعلومات الجغرافية وتغير المناخ: رؤية مكانية لمستقبل مستدام
بقلم عبد الرحمن جودة
في عالم يشهد تحولات غير مسبوقة وتحديات معقدة، يبرز تغير المناخ كواحد من أخطر التحديات التي تواجه البشرية. تتطلب مواجهته فهمًا عميقًا، وقدرة على التنبؤ، وتخطيطًا دقيقًا يعتمد على البيانات والمعلومات. هنا يأتي دور نظم المعلومات الجغرافية (GIS)، ليس فقط كأداة تقنية، بل كأداة هائلة في عمليات جمع وتخزين ومعالجة وتحليل البيانات المكانية والوصفية للظواهر المختلفة. إنه العلم الذي يوفر الرؤية المكانية الضرورية لفهم أبعاد تغير المناخ والتصدي له بفعالية.
إن الحاجة إلى نظم قادرة على التعامل مع البيانات المكانية وغير المكانية معًا دفعت نحو تطور نظم المعلومات الجغرافية. ومع ظهور تقنيات مثل النظام العالمي لتحديد المواقع (GPS)، التي سهلت الحصول على البيانات المكانية بدقة عالية، تعزز انتشار نظم المعلومات الجغرافية، وأصبحت عنصرًا حيويًا لدعم متخذي القرار في الوصول إلى القرار السليم. إن هذا العلم هو بالفعل علم نافع لمن تلهف وشغف بالتطور والحداثة، ويتيح للفرد أن يفيد نفسه ووطنه في مواجهة تحديات عظمى مثل تغير المناخ.
البيانات المكانية: نافذة على أثر تغير المناخ
يرتكز مفهوم نظم المعلومات الجغرافية على معالجة وتحليل البيانات المكانية المعرفة جغرافيًا. ما يمنحها قوتها في سياق تغير المناخ هو قدرتها العالية على ربط البيانات المكانية للظاهرة ببياناتها الوصفية، وتحليل العلاقات المكانية الصحيحة بين البيانات ومواقعها الجغرافية.
إن فهم تغير المناخ وآثاره يعتمد بشكل كبير على البيانات المكانية المتنوعة. تشمل هذه البيانات، على سبيل المثال لا الحصر، الصور الجوية، والصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية، وبيانات الاستشعار عن بعد، وبيانات استخدام الأراضي وغطائها (LULC)، والبيانات الهيدروغرافية، ونماذج الارتفاعات مثل الشبكة المثلثية غير المنتظمة (TIN).
تسمح نظم المعلومات الجغرافية بتخزين هذه البيانات في طبقات منفصلة، مما يسهل معالجة وتحليل خصائص محددة دون التأثير على النظام بأكمله. على سبيل المثال، يمكن تمثيل المجاري المائية في طبقة، والمناطق السكنية في طبقة أخرى، وبيانات هطول الأمطار في طبقة ثالثة.
تحليل مكاني لظواهر مناخية معقدة
إن قوة التحليل في نظم المعلومات الجغرافية تتيح فهمًا أعمق لكيفية ومكان حدوث تغير المناخ وآثاره. يمكن استخدام تراكب الطبقات (Mapping Overlays) لتحليل العلاقات بين الظواهر المختلفة، مثل تراكب خرائط المناطق المعرضة للفيضانات مع خرائط الكثافة السكانية لفهم المخاطر المحتملة. يساعد التحليل المكاني في العثور على الأنماط والاتجاهات المكانية المتعلقة بتغير المناخ.
في سياق تغير المناخ، تُستخدم نظم المعلومات الجغرافية في:
- النمذجة الهيدرولوجية: لتحديد أفضل الأماكن لتجمع مياه الأمطار، أو فهم اتجاهات الجريان، أو التنبؤ بتدفق الأنهار.
- تقييم مخاطر الكوارث: لتحديد الأماكن المعرضة لمخاطر الفيضانات وتقييم تأثيرها المحتمل، وتحديد أقرب الطرق لمراكز الإغاثة أو أفضل مواقع لمحطات الدفاع المدني.
- مراقبة البيئة: عبر مقارنة الخرائط والصور في فترات زمنية مختلفة لرصد التغيرات في غطاء الأرض أو التنوع البيولوجي.
- التخطيط للموارد الطبيعية: مثل مراقبة الثروات الطبيعية أو تحديد أفضل أماكن حصاد مياه الأمطار.
تقاطع نظم المعلومات الجغرافية والذكاء الاصطناعي: فهم وتنبؤ للمستقبل
لقد عزز التقدم في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي من قدرات نظم المعلومات الجغرافية في مواجهة تغير المناخ، ويُعرف التحليل المكاني باستخدام الذكاء الاصطناعي باسم “التحليلات المكانية” (Spatial Analytics).
تشمل التطبيقات:
- تنبؤات المناخ والطقس: باستخدام التعلم الآلي للتنبؤ بمتغيرات المناخ وتحويل النماذج المناخية إلى توقعات إقليمية دقيقة.
- تحليل البيانات المرئية: من خلال التعلم العميق والتعرف على الصور لتحليل صور الأقمار الصناعية، وتحديد استخدامات الأراضي، والكشف عن الظواهر مثل الفيضانات أو أحواض الاستزراع المائي.
- تحسين أنظمة الطاقة والنقل: باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لإدارة الطاقة، المباني الذكية، وشحن المركبات الكهربائية.
- فهم الظواهر المتطرفة: من خلال الاستدلال السببي لفهم أسباب مثل رطوبة التربة تحت ظروف مناخية قاسية.
- تحليل السياسات المناخية: باستخدام نماذج معالجة اللغة الطبيعية لتحليل النصوص وتصنيف السياسات.
- اكتشاف المواد: للتوصل إلى محفزات كيميائية فعالة للطاقة المتجددة مثل الهيدروجين.
نظم المعلومات الجغرافية: أداة حيوية للتخطيط والتكيف
لا تقتصر أهمية نظم المعلومات الجغرافية على الفهم والتحليل، بل تمتد لتشمل الدعم المباشر في اتخاذ القرارات المتعلقة بتغير المناخ. لقدرتها على عرض البيانات وتخزينها وتحليلها دور كبير في:
- التخطيط العمراني: لتقييم تأثر المناطق الحضرية وتحديد الحاجة لتعديل استخدامات الأراضي.
- إدارة الكوارث: عبر تحديد مواقع الإخلاء ومسارات الطوارئ.
- التخطيط للنقل: لتحديد مواقع البنية التحتية الصديقة للمناخ مثل حوامل الدراجات.
- إدارة الموارد المائية: من خلال تحديد مواقع لحصاد مياه الأمطار أو إدارة توزيعها.
- تقييم الأثر البيئي: لتقدير أثر تغيرات الأراضي على النظم البيئية.
كما تتيح نظم المعلومات الجغرافية إنشاء لوحات معلومات وخرائط تفاعلية تسهل إيصال المعلومات إلى صناع القرار والجمهور.
خاتمة
إن تحدي تغير المناخ يتطلب تضافر الجهود واستخدام كل الأدوات المتاحة. وتُعد نظم المعلومات الجغرافية إطارًا مكانيًا وتحليليًا لا غنى عنه لفهم هذا التحدي والاستجابة له بفعالية. ومع دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، تصبح نظم المعلومات الجغرافية أداة أكثر قوة للتنبؤ والمراقبة والتخطيط.
يجب أن يُدرَّس هذا التخصص ويُطوّر في الجامعات، ويُعد مسارًا مهنيًا واعدًا لكل من يسعى لإحداث فرق في مواجهة تغير المناخ. فنظم المعلومات الجغرافية ليست مجرد برامج وأجهزة، بل هي رؤية مكانية لفهم عالمنا المتغير والاستجابة له بحكمة لبناء مستقبل أكثر استدامة.